فصل: تفسير الآية رقم (14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


الجزء الثاني عشر

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏يعلم ما يُسرّون وما يعلنون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 5‏]‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وما من دابّة إلاّ يعلم مُستقرها ومُستودعها، وإنما نُظم الكلام على هذا الأسلوب تفنناً لإفادة التنصيص على العموم بالنفي المؤكد ب ‏(‏من‏)‏، ولإدماج تعميم رزق الله كل دابّة في الأرض في أثناء إفادة عموم علمه بأحوال كل دابة، فلأجل ذلك أخّرَ الفعل المعطوف لأن في التذكير بأن الله رازق الدواب التي لا حيلة لها في الاكتساب استدلالاً على أنّه عليم بأحوالها، فإن كونه رازقاً للدواب قضية من الأصول الموضوعة المقبولة عند عموم البشر، فمن أجل ذلك جعل رزق الله إياها دليلاً على علمه بما تحتاجه‏.‏

والدابة في اللغة‏:‏ اسم لما يدب أي يمشي على الأرض غير الإنسان‏.‏

وزيادة ‏{‏في الأرض‏}‏ تأكيد لمعنى ‏{‏دابة‏}‏ في التنصيص على أن العموم مستعمل في حقيقته‏.‏

والرزق‏:‏ الطعام، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجد عندها رزقاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏‏.‏

والاستثناء من عموم الأحوال التابع لعموم الذوات والمدلول عليه بذكر رزقها الذي هو من أحوالها‏.‏

وتقديم ‏{‏على الله‏}‏ قبل متعلقه وهو ‏{‏رزقها‏}‏ لإفادة القصر، أي على الله لا على غيره، ولإفادة تركيب ‏{‏على الله رزقها‏}‏ معنى أن الله تكفّل برزقها ولم يهمله، لأن ‏(‏على‏)‏ تدل على اللزوم والمحقوقية، ومعلوم أن الله لاَ يُلْزمُهُ أحدٌ شيئاً، فما أفاد معنى اللزوم فإنّما هو التزامه بنفسه بمقتضى صفاته المقتضية ذلك له كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعداً علينا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حقاً علينا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 103‏]‏‏.‏

والاستثناء من عموم ما يسند إليه رزق الدواب في ظاهر ما يبدو للناس أنّه رزق من أصحاب الدواب ومن يربونها، أي رزْقها على الله لا على غيره‏.‏ فالمستثنى هو الكون على الله، والمستثنى منه مطلق الكون مما يُتخيّل أنه رزاق فحصر الرزق في الكون على الله مجاز عقلي في العرف باعتبار أن الله مسبب ذلك الرزق ومُقدره‏.‏

وجملة ‏{‏ويعلم مُستقرّها ومُستودَعَها‏}‏ عطف على جملة الاستثناء لا على المستثنى، أي والله يعلم مستقر كلّ دابة ومستودَعها‏.‏ فليس حكم هذه الجملة بداخل في حيّز الحصر‏.‏

والمستقَرّ‏:‏ محلّ استقرارها‏.‏ والمستودع‏:‏ محلّ الإيداع، والإيداع‏:‏ الوضع والدخر‏.‏ والمراد به مستودعها في الرحم قبل بروزها إلى الأرض كقوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي أنشأكم من نفس واحدةٍ فمستقرً ومستودعً‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 98‏]‏‏.‏

وتنوين كلّ‏}‏ تنوين عوض عن المضاف إليه اختصار، أي كلّ رزقها ومستقرها ومستودعها في كتاب مبين، أي كتابة، فالكتاب هنا مصدر كقوله‏:‏ ‏{‏كتابَ الله عليكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وهو مستعمل في تقدير العلم وتحقيقه بحيث لا يقبل زيادة ولا نقصاناً ولا تخلفاً‏.‏ كما أن الكتابة يقصد منها أن لا يزاد في الأمر ولا ينقص ولا يبطل‏.‏ قال الحارث بن حلزة

حذر الجور والتطاخي وهل ينق *** ض ما في المهارق الأهواء

والمُبين‏:‏ اسم فاعل أبان بمعنى‏:‏ أظهر، وهو تخييل لاستعارة الكتاب للتقدير‏.‏ وليس المراد أنّه موضح لمن يطَالعه لأن علم الله وقدره لا يطلع عليه أحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وما من دابّة في الأرض إلاّ على الله رزقها‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 6‏]‏‏.‏ والمناسبة أنّ خلق السماوات والأرض من أكبر مظاهر علم الله وتعلقات قدرته وإتقان الصنع، فالمقصود من هذا الخبر لازمه وهو الاعتبار بسعة علمه وقدرته، وقد تقدم القول في نظيرها في قوله‏:‏ ‏{‏إنّ ربّكُمْ اللّهُ الذي خلق السموات والأرض في ستة أياممٍ ثم استوى على العرش‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏وكان عرشه على الماء‏}‏ يجوز أن تكون حالاً وأن تكون اعتراضاً بين فعل ‏(‏خلق‏)‏ ولام التعليل‏.‏ وأما كونها معطوفة على جملة ‏{‏وما من دابّة في الأرض إلاّ على الله رزقها‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 6‏]‏ المسوقة مساق الدليل على سعة علم الله وقدرته فغير رشيق لأنّ مضمون هذه الجملة ليس محسوساً ولا متقرراً لدى المشركين إذ هو من المغيبات وبعضه طرأ عليه تغيير بخلق السموات فلا يحسن جعله حجة على المشركين لإثبات سعة علم الله وقدرته المأخوذ من جملة ‏{‏وما من دابة في الأرض‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 6‏]‏ الخ‏.‏ والمعنى إن العرش كان مخلوقاً قبل السموات وكان محيطاً بالماء أو حاوياً للماء‏.‏ وحمل العرش على أنّه ذات مخلوقة فوق السموات هو ظاهر الآية‏.‏ وذلك يقتضي أن العرش مخلوق قبل ذلك وأن الماء مخلوق قبل السموات والأرض‏.‏ وتفصيل ذلك وكيفيته وكيفية الاستعلاء مما لا قبل للأفهام به إذ التعبير عنه تقريب‏.‏

ويجوز أن يكون المراد من العرش ملك الله وحكمه تمثيلاً بعرش السلطان، أي كان ملك الله قبل خلق السموات والأرض مُلكاً على الماء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ليبلوكم‏}‏ متعلق ب ‏{‏خلق‏}‏ واللاّم للتعليل‏.‏ والبلو‏:‏ الابتلاء، أي اختبار شيء لتحصيل علم بأحواله، وهو مستعمل كناية عن ظهور آثار خلقه تعالى للمخلوقات، لأن حقيقة البلو مستحيلة على الله لأنّه العليم بكلّ شيء، فلا يحتاج إلى اختباره على نحو قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ لنَعْلَم مَن يتّبعُ الرسول‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏‏.‏

وجُعل البلو علة لخلق السموات والأرض لكونه من حكمة خلق الأرض باعتبار كون الأرض من مجموع هذا الخلق، ثم إن خلق الأرض يستتبع خلق ما جعلت الأرض عامرة به، واختلاف أعمال المخاطبين من جملة الأحوال التي اقتضاها الخلق فكانت من حكمة خلق السموات والأرض، وكان التّعليل هنا بمراتب كثيرة، وعلة العلة علّة‏.‏

و ‏{‏أيكم‏}‏‏:‏ اسم استفهام، فهو مبتدأ، وجملة المبتدأ والخبر سادّة مسدّ الحال اللاّزم ذكرها بعد ضمير الخطاب في ‏{‏يبلوكم‏}‏، نظراً إلى أن الابتلاء لا يتعلق بالذوات، فتعدية فعل ‏(‏يبلو‏)‏ إلى ضمير الذوات ليس فيه تمام الفائدة فكان محتاجاً إلى ذكر حال تُقَيّد متعلق الابتلاء، وهذا ضرب من التعليق وليس عينه‏.‏

وفي الآية إشارة إلى أن من حكمة خلق الأرض صدور الأعمال الفاضلة من شرف المخلوقات فيها‏.‏ ثم إن ذلك يقتضي الجزاء على الأعمال إكمالاً لمقتضى الحكمة ولذلك أعقبت بقوله‏:‏ ‏{‏ولئنْ قلت إنّكم مبعوثون‏}‏ الخ‏.‏

‏{‏وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏

يظهر أن الواو واو الحال والجملة حال من فاعل ‏{‏خلَق السماوات والأرض‏}‏ باعتبار ما تعلق بالفعل من قوله في ‏{‏ستة أيام‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ليبلوكم‏}‏، والتقدير‏:‏ فعل ذلك الخلق العجيب والحال أنهم ينكرون ما هو دون ذلك وهو إعادة خلق الناس‏.‏ ويجهلون أنه لولا الجزاء لكان هذا الخلق عبثاً كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 38‏]‏‏.‏ فإنْ حمل الخبر في قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي خلق السموات والأرض‏}‏ على ظاهر الإخبار كانت الحال مقدّرة من فاعل ‏{‏خلَق‏}‏ أي خلق ذلك مقدّراً أنكم تنكرون عظيم قدرته، وإن حمل الخبر على أنه مستعمل في التنبيه والاعتبار بقدرة الله كانت الحال مقارنة‏.‏

ووجه جعلها جملة شرطية إفادة تجدد التكذيب عند كلّ إخبار بالبعث، واللاّم موطّئة للقسَم، وجواب القسَم ‏{‏ليقولن‏}‏ الخ، فاللام فيه لام جواب القسم‏.‏ وجواب ‏(‏إنْ‏)‏ محذوف أغنى عنه جواب القسَم كما هو الشأن عند اجتماع شرط وقسم أنْ يحذف جواب المتأخر منهما‏.‏

وتأكيد الجملة باللام الموطئة للقسم وما يتبعه من نون التوكيد لتنزيل السامع منزلة المتردد في صدور هذا القول منهم لغرابة صدوره من العاقل، فيكون التأكيد القوي والتنزيل مستعملاً في لازم معناه وهو التعجيب من حال الذين كفروا أن يحيلوا إعادة الخلق وقد شاهدوا آثار بدء الخلق وهو أعظم وأبدع‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏إلاّ سحرٌ‏}‏ على أنّ ‏{‏هذا‏}‏ إشارة إلى المدلول عليه ب ‏(‏قُلتَ‏)‏، ومعنى الإخبار عن القول بأنّه سحرٌ أنهم يزعمون أنّه كلام من قبيل الأقوال التي يقولها السحرة لخصائص تؤثر في النفوس‏.‏

وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف‏:‏ ‏{‏إلاّ ساحرٌ‏}‏ فالإشارة بقوله ‏{‏هذا‏}‏ إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم المفهوم من ضمير ‏{‏قلتَ‏}‏ أي أنه يقول كلاماً يسحرنا بذلك‏.‏

ووجه جعلهم هذا القول سحراً أن في معتقداتهم وخرافاتهم أنّ من وسائل السحر الأقوال المستحيلة والتكاذيب البهتانيّة، والمعنى أنّهم يكذّبون بالبعث كلّما أخبروا به لا يترددون في عدم إمكان حصوله بله إيمانهم به‏.‏

و ‏{‏مبين‏}‏ اسم فاعل أبان المهموز الذي هو بمعنى بَانَ المجرد، أي بَيّنٌ وَاضحٌ أنه سحر أو أنه ساحرٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ‏}‏‏.‏

مناسبته لما قبله أن في كليهما وصف فنّ من أفانين عناد المشركين وتهكمهم بالدعوة الإسلامية، فإذا خبّرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالبعث وأنّ شركهم سببٌ لتعذيبهم جعلوا كلامه سحراً، وإذا أنذرهم بعقوبة العذاب على الإشراك استعجلوه، فإذا تأخّر عنهم إلى أجل اقتضته الحكمة الربّانيّة استفهموا عن سبب حبسه عنهم استفهام تَهكم ظناً أن تأخره عجز‏.‏

واللام موطئة للقسم‏.‏ وجملة ‏{‏ليقولن مَا يَحبسه‏}‏ جواب القسم مغنية من جواب الشرط‏.‏

والأمّة‏:‏ حقيقتها الجماعة الكثيرة من النّاس الذين أمْرُهُمْ واحد، وتطلق على المُدة كأنهم رَاعَوا أنّها الأمد الذي يظهر فيه جيل فأطلقت على مطلق المدة، أي بعد مدة‏.‏

و ‏{‏معدودة‏}‏ معناه مقدرة، أي مؤجلة‏.‏ وفيه إيماء إلى أنّها ليست مديدة لأنّه شاع في كلام العرب إطلاق العَدّ والحساب ونحوهما على التّقليل، لأن الشيء القليل يمكن ضبطه بالعدد، ولذلك يقولون في عكسه‏:‏ بغير حساب، مثل ‏{‏والله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 212‏]‏‏.‏

والحبس‏:‏ إلزام الشيء مكاناً لا يتجاوزه‏.‏ ولذلك يستعمل في معنى المنع كما هنا، أي ما يمنع أن يصل إلينا ويحل بنا وهم يريدون التهكم‏.‏

‏{‏أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ‏}‏‏.‏

هذه الجملة واقعة موقع الجواب عن كلامهم إذ يقولون ما يحبس عنا العذاب، فلذلك فصلت كما تفصل المحاورة‏.‏ وهذا تهديد وتخويف بأنّه لا يصرف عنهم ولكنه مؤخر‏.‏

وافتُتح الكلام بحرف التّنبيه للاهتمام بالخبر لتحقيقه وإدخال الروع في ضمائرهم‏.‏

وتقديم الظرف للإيماء بأنّ إتيان العذاب لا شك فيه حتى أنه يوقّت بوقت‏.‏

والصرف‏:‏ الدفع والإقصاء‏.‏

والحَوْق‏:‏ الإحاطة‏.‏

والمعنى‏:‏ أنه حالّ بهم حلولاً لا مخلص منه بحال‏.‏

وجملة ‏{‏وحَاقَ بهم‏}‏ في موضع الحال أو معطوفة على خبر ‏{‏ليس‏}‏‏.‏

وصيغة المضي مستعملة في معنى التحقق، وهذا عذاب القتل يوم بدر‏.‏

وماصدق ‏{‏ما كانوا به يستهزئون‏}‏ هو العذاب، وباء ‏{‏به‏}‏ سببية أي بسبب ذكره فإن ذكر العذاب كان سبباً لاستهزائهم حين توعدهم به النّبيء صلى الله عليه وسلم

والإتيان بالموصول في موضع الضمير للإيماء إلى أن استهزاءهم كان من أسباب غضب الله عليهم‏.‏ وتقديره إحاطة العذاب بهم بحيث لا يجدون منه مخلصاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ولئن أخّرْنَا عنهم العذاب إلى أمّة معدُودة‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 8‏]‏‏.‏ فإنه لما ذكر أن ما هم فيه متاع إلى أجل معلوم عند الله‏.‏ وأنهم بطروا نعمة التمتيع فسخروا بتأخير العذاب، بيّنت هذه الآية أن أهل الضلالة راسخون في ذلك لأنّهم لا يفكّرون في غير اللّذَات الدنيوية فتجري انفعالاتهم على حسب ذلك دون رجاء لتغير الحال، ولا يتفكرون في أسباب النعيم والبؤس وتصرفات خالق الناس ومُقدّر أحوالهم، ولا يتّعظون بتقلبات أحوال الأمم، فشأن أهل الضلالة أنّهم إن حلّت بهم الضراءُ بعد النعمة ملكهم اليأس من الخير ونَسُوا النعمة فجحدوها وكفروا منعمها، فإنّ تأخير العذاب رحمةٌ وإتيان العذاب نزع لتلك الرحمة، وهذه الجملة في قوة التذييل‏.‏ فتعريف ‏(‏الإنسان‏)‏ تعريف الجنس مراد به الاستغراق، وبذلك اكتسبت الجملة قوة التذييل‏.‏ فمعيار العموم الاستثناء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاّ الذّين صبرُوا وعملُوا الصّالحَات‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 11‏]‏ كما يأتي، فيكون الاستغراق عرفياً جارياً على اصطلاح القرآن من إطلاق لفظ الإنسان أو الناس، ولأن وصفي ‏{‏يؤوس كفور‏}‏ يُناسبان المشركين فيتخصص العام بهم‏.‏

وقيل التّعريف في ‏{‏الإنسان‏}‏ للعهد مراد منه إنسان خاص، فرَوى الواحدي عن ابن عبّاس أنّها نزلت في الوليد بن المغيرة‏.‏ وعنه أنّها نزلت في عبد الله بن أبي أميّة المخزومي‏.‏ ويجوز أن يكون المراد كلّ إنسان إذا حلّ به مثل ذلك على تفاوت في النّاس في هذا اليأس‏.‏

واللاّم موطئة للقسم‏.‏

والإذاقة مستعملة في إيصال الإدراك على وجه المجاز، واختيرت مادة الإذاقة لما تشعر به من إدراك أمر محبوب لأنّ المرء لا يذوق إلاّ ما يشتهيه‏.‏

والرحمة، أريدَ بها‏:‏ رحمة الدنيا‏.‏ وأطلقت على أثرها وهو النعمة كالصحة والأمن والعافية، والمراد النعمة السابقة قبل نزول الضر‏.‏

والنزع حقيقته‏:‏ خلع الثوب عن الجسد‏.‏ واستعمل هنا في سلب النعمة على طريقة الاستعارة، ولذلك عدّي بحرف ‏(‏من‏)‏ دون ‏(‏عن‏)‏ لأنّ المعنى على السلب والافتكاك، فذكر ‏(‏من‏)‏ تجريد للمجاز‏.‏

وجملة ‏{‏إنه ليؤوس كفور‏}‏ جواب القسم، وجردت من الافتتاح باللاّم استغناء عنها بحرف التوكيد وبلام الابتداء في خبر ‏(‏إنّ‏)‏‏.‏ واستغني بجواب القسم عن جواب الشرط المقارن له كما هو شأن الكلام المشتمل على شرط وقسم كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ولئن أخّرنا عنهم العذاب‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 8‏]‏ إلى آخره‏.‏

واليؤوس والكفور مثالا مبالغة في الآيس وكافر النعمة، أي جاحدها، والمراد بالكفور‏:‏ منكر نعمة الله لأنّه تصدُر منه أقوال وخواطر من السخط على ما انتابه كأنّه لم ينعم عليه قط‏.‏

وتأكيد الجملة باللاّم الموطئة للقسم وبحرف التوكيد في جملة جواب القسم لقصد تحقيق مضمونها وأنّه حقيقة ثابتة لا مبالغة فيها ولا تغليب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

هذه الجملة تتميم للّتي قبلها لأنها حكت حالة ضدّ الحالة في الّتي قبلها، وهي جملة قسم وشرط وجواب قسم كما تقدم في نظائرها‏.‏

وضمير ‏{‏أذقناه‏}‏ المنصوب عائد إلى الإنسان فتعريفه كتعريف معاده للاستغراق بالمعنى المتقدم‏.‏

والنعماء بفتح النون وبالمد النعمة واختير هذا اللفظ هنا وإن كان لفظ النعمة أشهر لمحسن رعي النظير في زنة اللّفظين النعماء والضراء‏.‏ والمراد هنا النعمة الحاصلة بعد الضراء‏.‏

والمس مستعمل في مطلق الإصابة على وجه المجاز‏.‏ واختيار فعل الإذاقة لما تقدم، واختيار فعل المس بالنسبة إلى إدراك الضرّاء إيماء إلى أنّ إصابة الضرّاء أخفّ من إصابة النّعماء، وأن لطف الله شامل لعباده في كلّ حال‏.‏

وأكّدَت الجملة باللاّم الموطئة للقَسَم وبنون التّوكيد في جملة جواب القسم لمثل الغرض الذي بيّنّاه في الجملة السابقة‏.‏

وجعل جواب القسم القول للإشارة إلى أنّه تبجحٌ وتفاخر، فالخبر في قوله‏:‏ ‏{‏ذهب السيئات عنّي‏}‏ مستعمل في الازدهاء والإعجاب، وذلك هو مقتضى زيادة ‏{‏عنّي‏}‏ متعلقاً ب ‏{‏ذهب‏}‏ للإشارة إلى اعتقاد كل واحد أنّه حقيق بأن تَذهب عنه السيّئات غروراً منه بنفسه، كما في قوله‏:‏ ‏{‏ولئن أذقناه رحمةً منّا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمةً ولئن رجعت إلى ربّي إن لي عندَه لَلْحسنى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 50‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏إنّه لفرح فخور‏}‏ استئناف ابتدائي للتعجيب من حاله، و‏(‏فرح وفخور‏)‏ مثالاَ مبالغة، أي لشديد الفرح شديد الفخر‏.‏ وشدة الفرح‏:‏ تجاوزه الحد وهو البطر والأشَر، كما في قوله‏:‏ ‏{‏إنّ اللّهَ لاَ يُحبُّ الْفَرحين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76‏]‏‏.‏

والفخر‏:‏ تباهي المرء على غيره بما له من الأشياء المحبوبة للنّاس‏.‏

والمعنى أنّه لا يشكر الله على النعمة بعد البأساء وَمَا كان فيه من الضرّاء فلا يتفكر في وجود خالق الأسباب وَنَاقل الأحوال، والمخالف بين أسبابها‏.‏ وفي معنى الآيتين قولُه في سورة ‏[‏الشورى‏:‏ 48‏]‏ ‏{‏وَإنّا إذا أذقنا الإنسانَ منّا رحمةً فَرحَ بهَا وإن تصبهم سيئةٌ بما قدمت أيديهم فإنّ الإنسانَ كفور‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

احتراس باستثناء من ‏(‏الإنسان‏)‏‏.‏ والمراد بالّذين صبروا المؤمنون بالله لأنّ الصبر من مقارنات الإيمان فَكنيَ بالذين صبروا عن المؤمنين فإنّ الإيمان يَرُوضُ صاحبَه على مفارقة الهوى ونبذ معتاد الضلالة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إلاّ الّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصّالحَات وَتَوَاصَوْا بالْحَقّ وَتَوَاصَوْا بالصّبْر‏}‏ ‏[‏العصر‏:‏ 3‏]‏‏.‏

ومنْ معاني الصبر انتظار الفرج ولذلك أوثرَ هنا وصفُ ‏(‏صبروا‏)‏ دون ‏(‏آمنوا‏)‏ لأنّ المرادَ مقابلة حالهم بحال الكفّار في قوله‏:‏ ‏{‏إنّه ليؤوس كفور‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ودل الاستثناء على أنّهم متّصفون بضد صفات المستثنى منهم‏.‏ وفي هذا تحذير من الوقوع فيما يماثل صفات الكافرين على اختلاف مقادير‏.‏ وقد نسجت الآية على هذا المنوال من الإجمال لتذهب نفوس السامعين من المؤمنين في طرق الحذر من صفتي اليأس وكفران النعمة، ومن صفتي الفرح والفخر كل مذهب ممكن‏.‏

وجملة ‏{‏أولئك لهم مغفرة وأجْرٌ كبير‏}‏ مستأنفة ابتدائية‏.‏ والإتيان باسم الإشارة عقب وصفهم بما دل عليه الاستثناء وبالصبر وعمل الصالحات تنبيهٌ على أنّهم استحقوا ما يذكر بعد اسم الإشارة لأجْل ما ذكر قبله من الأوصاف كقوله‏:‏ ‏{‏أولَئكَ عَلَى هُدىً منْ رَبهمْ وأولئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

تفريع على قولِه ‏{‏وَلَئِنْ قُلْت إنّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْد الْمَوْت إلَى قوله يَسْتَهْزئُون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7، 8‏]‏ مِن ذكر تكذيبهم وعنادهم‏.‏ يشير هذا التّفريع إلى أنّ مضمون الكلام المفرع عليه سبب لتوجيه هذا التوقع لأنّ من شأن المفرع عليه اليأس من ارعوائهم لتكرر التكذيب والاستهزاء يأساً قد يَبْعَثُ على ترك دعائهم، فذلك كله أفيد بفاء التفريع‏.‏

والتوقع المستفاد من ‏(‏لعل‏)‏ مستعمل في تحذير من شأنه التبليغ‏.‏ ويجوز أن يقدّر استفهام حذفت أداته‏.‏ والتقدير‏:‏ ألَعَلّكَ تارك‏.‏ ويكون الاستفهام مستعملاً في النفي للتحذير، وذلك نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَعَلّكَ بَاخِعٌ نفسك ألاّ يكونوا مؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 3‏]‏‏.‏

والاستفهام كناية عن بلوغ الحالة حداً يوجِبُ توقع الأمر المستفهَم عنه حتى أنّ المتكلّم يستفهم عن حصوله‏.‏ وهذا أسلوب يقصد به التحريك من همة المخاطب وإلهابُ همته لدفع الفتور عنه، فليس في هذا تجويز ترك النّبيّء صلى الله عليه وسلم تبليغ بعض ما يوحى إليه، وذلك البعض هو مّا فيه دعوتهم إلى الإيمان وإنذارهم بالعذاب وإعلامهم بالبعث كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى ‏{‏وإذَا لَمْ تَأتِهِمْ بِآيَةٍ قَالوا لَوْلاَ اجْتَبَيْتهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 203‏]‏‏.‏ والمعنى تحذيره من التأثّر بعنادهم وتكذيبهم واستهزائهم، ويستتبع ذلك تأييسَ المشركين من تركه ذكر البعث والإنذار بالعذاب، فالخطاب مستعمل في حقيقته ومراد منه مع ذلك علم السامعين بمضمونه‏.‏

‏{‏وضائق‏}‏‏:‏ اسم فاعل من ضاق‏.‏ وإنما عدل عن أن يقال ‏(‏ضيّق‏)‏ هنا إلى ‏{‏ضائق‏}‏ لمراعاة النظير مع قوله‏:‏ ‏(‏تارك‏)‏ لأنّ ذلك أحسن فصاحة‏.‏ ولأنّ ‏{‏ضائق‏}‏ لاَ دَلالَة فيه على تمكّن وصف الضّيْق من صدره بخلاف ضيّق، إذ هو صفة مشبهة وهي دالة على تمكن الوصف من الموصوف، إيماء إلى أنّ أقْصَى ما يتوهّم توقعه في جانبه صلى الله عليه وسلم هو ضَيْق قليل يعرض له‏.‏

والضيق مستعمل مجازاً في الغم والأسف، كما استعمل ضده وهو الانشراح في الفرح والمسرة‏.‏

و ‏{‏ضائق‏}‏ عطف على ‏{‏تارك‏}‏ فهو وفاعله جملة خبر عن ‏(‏لعلّك‏)‏ فيتسلط عليه التفريع‏.‏

والباء في ‏{‏بِه‏}‏ للسببية، والضمير المجرور بالباء عائد على ما بعده وهو ‏{‏أن يقولوا‏}‏‏.‏ و‏{‏أن يقولوا‏}‏ بدل من الضمير‏.‏ ومثل ذلك مستعمل في الكلام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأسروا النّجْوَى الّذينَ ظَلَموا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 3‏]‏، فيكون تحذيراً من أن يضيق صدره لاقتراحهم الآيات بأن يقولوا‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه كنزٌ أو جاء معه ملكٌ، ويحصل مع ذلك التحذير من أن يضيق صدره من قولهم‏:‏ ‏{‏إن هذا إلاّ سِحْرٌ مبِين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7‏]‏، ومن قولهم‏:‏ ما يَحْبس العذاب عنا، بواسطة كون ‏{‏ضائق‏}‏ داخلاً في تفريع التحذير على قولَيْهم السّابقَيْن‏.‏ وإنما جيء بالضمير ثم أبدل منه لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليكون أشد تمكّناً في الذهن، ولقصد تقديم المجرور المتعلق باسم الفاعل على فاعله تنبيهاً على الاهتمام بالمتعلّق لأنّه سبب صدور الفعل عن فاعله فجيء بالضمير المفسر فيما بعدُ لما في لفظ التفسير من الطول، فيحصل بذكره بُعد بين اسم الفاعل ومرفوعه، فلذلك اختصر في ضمير يعود عليه، فحصَل الاهتمام وقُوّيَ الاهتمام بما يدل على تمكنه في الذهن‏.‏

ومعظم المفسرين جعلوا ضمير ‏{‏به‏}‏ عائداً إلى ‏{‏بعض ما يوحى إليك‏}‏‏.‏ على أن ما يوحى إليه سبب لضيق صدره، أي لا يضيق له صدرك، وجعلوا ‏{‏أن يقولوا‏}‏ مجروراً بلام التعليل مقدرة‏.‏ وعليه فالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏أن يقولوا‏}‏ بمعنى المضي لأنهم قالوا ذلك‏.‏ واللام متعلقة ب ‏{‏ضائق‏}‏ وليس المعنى عليه بالمتين‏.‏

و ‏{‏لولا‏}‏‏:‏ للتحضيض، والكنز‏:‏ المال المكنوز أي المخبوء‏.‏

وإنزاله‏:‏ إتيانه من مكان عَال أي من السماء‏.‏

وهذا القول صدر من المشركين قبل نزول هذه الآية فلذلك فالفعل المضارع مراد به تجدد هذا القول وتكرره منهم بقرينة العلم بأنه صدر منهم في الماضي، وبقرينة التحذير من أن يكون ذلك سبباً في ضيق صدره لأن التحذير إنما يتعلق بالمستقبل‏.‏

ومرادهم ب ‏{‏جاء معه ملك‏}‏ أن يجيء ملك من الملائكة شاهداً برسالته، وهذا من جهلهم بحقائق الأمور وتوهمهم أنّ الله يعبأ بإعراضهم ويتنازل لإجابة مقترح عنادهم، ومن قصورهم عن فهم المعجزات الإلهية ومَدى التأييد الربّاني‏.‏

وجملة ‏{‏إنّمَا أنْتَ نَذيرٌ‏}‏ في موقع العلّة للتحذير من تركه بعض ما يوحى إليه وضيق صدره من مقالتهم‏.‏ فكأنه قيل لا تترك إبلاغهم بعض ما يوحى إليك ولا يضق صدرك من مقالهم لأنك نذيرٌ لاَ وَكيل على تحصيل إيمانهم، حتى يترتب على يأسك من إيمانهم تركُ دعوتهم‏.‏

والقصر المستفاد من ‏{‏إنما‏}‏ قصر إضافي، أي أنت نذير لا موكّل بإيقاع الإيمان في قلوبهم إذ ليس ذلك إليك بل هو لله، كما دلّ عليه قوله قبله ‏{‏فَلَعَلّك تَاركٌ بعضَ مَا يوحَى إلَيْكَ وَضَائِقٌ بِه صَدْرُكَ‏}‏ فهو قصر قلب‏.‏ وفيه تعريض بالمشركين برد اعتقادهم أنّ الرسول يأتي بما يُسأل عنه من الخوارق فإذا لم يأتهم به جعلوا ذلك سنداً لتكذيبهم إيّاه رداً حاصلاً من مستتبعات الخطاب، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَعَلّكَ تَاركٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إلَيْكَ‏}‏ إذ كثر في القرآن ذكر نحو هذه الجملة في مقام الردّ على المشركين والكافرين الذين سألوا الإتيان بمعجزات على وفق هواهم‏.‏

وجملة ‏{‏وَاللّه عَلَى كُلّ شَيْء وَكِيل‏}‏ تذييل لقوله‏:‏ ‏{‏فَلَعَلّكَ تَاركٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إلَيْكَ‏}‏ إلى هنا، وهي معطوفة على جملة ‏{‏إنما أنت نذير‏}‏ لما اقتضاه القصر من إبطال أن يكون وكيلاً على إلجائهم للإيمان‏.‏ ومما شمله عموم ‏{‏كل شيء‏}‏ أن الله وكيل على قلوب المكذبين وهم المقصود، وإنما جاء الكلام بصيغة العموم ليكون تذييلاً وإتياناً للغرض بما هو كالدّليل، ولينتقل من ذلك العموم إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله مطلع على مكر أولئك، وأنه وكيل على جزائهم وأن الله عالم ببذل النبي جهده في التبليغ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏أم‏}‏ هذه منقطعة بمعنى ‏(‏بل‏)‏ التي للإضراب للانتقال من غرض إلى آخر، إلاّ أن ‏(‏أم‏)‏ مختصة بالاستفهام فتقدر بعدها همزة الاستفهام‏.‏ والتقدير‏:‏ بل أيقولون افتراه‏.‏ والإضراب انتقالي في قوة الاستئناف الابتدائي، فللجملة حكم الاستئناف‏.‏ والمناسبة ظاهرة، لأن الكلام في إبطال مزاعم المشركين، فإنهم قالوا‏:‏ هذا كلام مفترى، وقرعهم بالحجة‏.‏ والاستفهام إنكاري‏.‏

والافتراء‏:‏ الكذب الذي لا شبهة لصاحبه، فهو الكذب عن عمد، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن الذين كفَرُوا يفترون على الله الكذب‏}‏ في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 103‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏قل فأتوا‏}‏ جواب لكلامهم فلذلك فصلت على ما هو مستعمل في المحاورة سواء كانت حكاية المحاورة بصيغة حكاية القول أو كانت أمراً بالقول كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏ والضمير المستتر في ‏(‏افتراه‏)‏ عائد إلى النبي عليه الصلاة والسلام المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وضمير الغائب البارز المنصوب عائد إلى القرآن المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏بعض ما يوحى إليك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 12‏]‏‏.‏

والاتيان بالشيء‏:‏ جلبه، سواء كان بالاسترفاد من الغير أم بالاختراع من الجالب وهذا توسعة عليهم في التحدّي‏.‏

وتحدّاهم هنا بأن يأتوا بعشر سور خلاف ما تحدّاهم في غير هذا المكان بأن يأتوا بسورة مثله، كما في سورة البقرة وسورة يونس‏.‏ فقال ابن عبّاس وجمهور المفسرين‏:‏ كان التحدّي أوّل الأمر بأن يأتوا بعشر سور مثل القرآن‏.‏ وهو ما وقع في سورة هود، ثمّ نسخ بأن يأتوا بسورة واحدة كما وقع في سورة البقرة وسورة يونس‏.‏ فتخطّى أصحاب هذا القول إلى أن قالوا إن سورة هود نزلت قبل سورة يونس، وهو الذي يعتمد عليه‏.‏

وقال المبرّد‏:‏ تحدّاهم أولاً بسورة ثمّ تحدّاهم هنا بعشر سور لأنّهم قد وسع عليهم هنا بالاكتفاء بسور مفتريات فلمّا وسع عليهم في صفتها أكثَرَ عليهم عددها‏.‏ وما وقع من التحدّي بسورة اعتبر فيه مماثلتها لسور القرآن في كمال المعاني، وليس بالقويّ‏.‏

ومعنى ‏{‏مفتريات‏}‏ أنها مفتريات المعاني كما تزعمون على القرآن أي بمثل قصص أهل الجاهلية وتكاذيبهم‏.‏ وهذا من إرخاء العنان والتسليم الجدلي، فالمماثلة في قوله ‏{‏مثله‏}‏ هي المماثلة في بلاغة الكلام وفصاحته لا في سداد معانيه‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وفي هذا دليل على أن إعجازه وفصاحته بقطع النظر عن علوّ معانيه وتصديق بعضه بعضاً‏.‏ وهو كذلك‏.‏

والدعاء‏:‏ النداء لعمل‏.‏ وهو مستعمل في الطلب مجازاً ولو بدون نداء‏.‏

وحذف المتعلق لدلالة المقام، أي وادْعوا لذلك‏.‏ والأمر فيه للإباحة، أي إن شئتم حين تكونون قد عجزتم عن الإتيان بعشر سور من تلقاء أنفسكم فلكم أن تدعوا من تتوسّمون فيه المقدرة على ذلك ومَن تَرجون أن ينفحكم بتأييده من آلهتكم وبتيسير الناس ليعاونوكم كقوله‏:‏

‏{‏وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏‏.‏

و ‏{‏من دون الله‏}‏ وصف ل ‏{‏من استطعتم‏}‏، ونكتة ذكر هذا الوصف التذكير بأنهم أنكروا أن يكون من عند الله، فلما عمّم لهم في الاستعانة بمن استطاعوا أكّد أنهم دون الله فإن عجزوا عن الإتيان بعشر سور مثله مع تمكنهم من الاستعانة بكلّ من عدا الله تبين أن هذا القرآن من عند الله‏.‏

ومعنى ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ أي في قولكم ‏{‏افتراه‏}‏، وجواب الشرط هو قوله‏:‏ ‏{‏فأتوا بعشر سور‏}‏‏.‏ ووجه الملازمة بين الشرط وجزائه أنه إذا كان الافتراء يأتي بهذا القرآن فما لكم لا تفترون أنتم مثله فتنهض حجتكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

تفريع على ‏{‏وادْعوا من استطعتم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 13‏]‏ أي فإن لم يستجب لكم مَن تدعو لهم فأنتم أعجز منهم لأنكم ما تدعونهم إلاّ حين تشعرون بعجزكم دون معاون فلا جرم يكون عجز هؤلاء موقعاً في يأس الدّاعين من الإتيان بعشر سور‏.‏

والاستجابة‏:‏ الإجابة، والسين والتاء فيه للتأكيد‏.‏ وهي مستعملة في المعاونة والمظاهرة على الأمر المستعان فيه، وهي مجاز مرسل لأنّ المعاونة تنشأ عن النّداء إلى الإعانة غالباً فإذا انتدب المستعان به إلى الإعانة أجاب النداء بحضوره فسمّيت استجابة‏.‏

والعلم‏:‏ الاعتقاد اليقين، أي فأيقنوا أن القرآن ما أنزل إلاّ بعلم الله، أي ملابساً لعلم الله‏.‏ أي لأثر العلم، وهو جعله بهذا النظم للبشر لأن ذلك الجعل أثر لقدرة الله الجارية على وفق علمه‏.‏ وقد أفادت ‏(‏أنما‏)‏ الحصر، أي حصر أحوال القرآن في حالة إنزاله من عند الله‏.‏ و‏{‏أن لا إله إلاّ هو‏}‏ عطف على ‏{‏أنّما أنزل‏}‏ لأنهم إذا عجزوا فقد ظهر أن من استنصروهم لا يستطيعون نصرهم‏.‏ ومن جملة من يستنصرونهم بطلب الإعانة على المعارضة بين الأصنام عن إعانة أتباعهم فدل ذلك على انتفاء الإلهية عنهم‏.‏

والفاء في ‏{‏فهل أنتم مسلمون‏}‏ للتفريع على ‏{‏فاعلموا‏}‏‏.‏ والاستفهام مستعمل في الحثّ على الفعل وعدم تأخيره كقوله‏:‏ ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏ أي عن شرب الخمر وفعل الميسر‏.‏ والمعنى‏:‏ فهل تسلمون بعد تحققكم أنّ هذا القرآن من عند الله‏.‏

وجيء بالجملة الاسمية الدالة على دوام الفعل وثباته‏.‏ ولم يقل فهل تسلمون لأنّ حالة عدم الاستجابة تكسب اليقين بصحة الإسلام فتقتضي تمكنه من النفوس وذلك التمكن تدلّ عليه الجملة الاسمية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

استئناف اعتراضي بين الجملتين ناشئ عن جملة ‏{‏فهل أنتم مسلمون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 14‏]‏ لأنّ تلك الجملة تفرّعت على نهوض الحجة فإن كانوا طالبين الحق والفوز فقد استتبّ لهم ما يقتضي تمكن الإسلام من نفوسهم، وإن كانوا إنّما يطلبون الكبرياء والسيادة في الدنيا ويأنفون من أن يكونوا تبعاً لغيرهم فهم مريدون الدنيا فلذلك حذّرُوا من أن يغتروا بالمتاع العاجل وأعْلِموا بأنّ وراء ذلك العذابَ الدائم وأنّهم على الباطل، فالمقصود من هذا الكلام هو الجملة الثانية، أعني جملة ‏{‏أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النّار‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ وما قبل ذلك تمهيد وتنبيه على بوارق الغرور ومزالق الذهول‏.‏

ولمّا كان ذلك هو حالهم كان في هذا الاعتراض زيادة بيان لأسباب مكابرتهم وبعدهم عن الإيمان، وفيه تنبيه المسلمين بأن لا يغتروا بظاهر حسن حال الكافرين في الدنيا، وأن لا يحسبوا أيضاً أنّ الكفر يوجب تعجيل العذاب فأوقظوا من هذا التوهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يغرنّك تقلّب الذين كفروا في البلاد متاعٌ قليلٌ ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 196، 197‏]‏‏.‏

وفعل الشرط في المقام الخطابي يفيد اقتصار الفاعل على ذلك الفعل، فالمعنى من كان يريد الحياة الدنيا فقط بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين ليس لَهمْ في الآخرة إلاّ النّار‏}‏ إذ حصر أمرهم في استحقاق النار وهو معنى الخلود‏.‏ ونظير هذه الآية ‏{‏من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 18، 19‏]‏‏.‏ فالمعنى من كان لا يطلب إلاّ منافع الحياة وزينتها‏.‏ وهذا لا يصدر إلاّ عن الكافرين لأنّ المؤمن لا يخلو من إرادة خير الآخرة وما آمن إلاّ لذلك، فموْرد هذه الآيات ونظائرها في حال الكافرين الذين لا يؤمنون بالآخرة‏.‏

فأمّا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتنّ تردْن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتّعْكنّ وأسرّحْكن سراحاً جميلاً وإن كنتُنّ تُردن الله ورسوله والدّار الآخرة فإنّ الله أعدّ للمُحْسنات منكُنّ أجراً عظيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 28، 29‏]‏ فذلك في معنى آخر من معاني الحياة وزينتها وهو ترف العيش وزينة اللباس، خلافاً لما يَقتضيه إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن كثير من ذلك الترَف وتلك الزينة‏.‏

وضمير ‏{‏إليهم‏}‏ عائد إلى ‏{‏مَن‏}‏ الموصولة لأنّ المراد بها الأقوام الذين اتصفوا بمضمون الصلة‏.‏

والتوفية‏:‏ إعطاء الشيء وافياً، أي كاملاً غير منقوص، أي نجعل أعمالهم في الدّنيا وافية ومعنى وفائها أنّها غير مشوبة بطلب تكاليف الإيمان والجهاد والقيام بالحق، فإن كل ذلك لا يخلو من نقصان في تمتع أصحاب تلك الأعمال بأعمالهم وهو النقصان الناشئ عن معاكسة هوى النفس، فالمراد أنهم لا يُنقصون من لذاتهم التي هيّأوها لأنفسهم على اختلاف طبقاتهم في التمتع بالدنيا، بخلاف المؤمنين فإنهم تتهيّأ لهم أسباب التمتع بالدنيا على اختلاف درجاتهم في ذلك التهيؤ فيتركون كثيراً من ذلك لمراعاتهم مرضاة الله تعالى وحذرهم من تبعات ذلك في الآخرة على اختلاف مراتبهم في هذه المراعاة‏.‏

وعُدّي فعل ‏{‏نُوفّ‏}‏ بحرف ‏(‏إلى‏)‏ لتضمنه معنى نوصل أو نبلغ لإفادة معنيين‏.‏

فليس معنى الآية أن من أراد الحياة وزينتها أعطاه الله مراده لأن ألفاظ الآية لا تفيد ذلك لقوله‏:‏ ‏{‏نُوَفّ إليهم أعمالهم‏}‏، فالتوفية‏:‏ عدم النقص‏.‏ وعلقت بالأعمال وهي المساعي‏.‏ وإضافة الأعمال إلى ضمير ‏{‏هم‏}‏ تفيد أنها الأعمال التي عُنوا بها وأعدُّوها لصالحهم أي نتركها لهم كما أرادوا لا نُدخل عليهم نقصاً في ذلك‏.‏ وهذه التوفية متفاوتة والقدر المشترك فيها بينهم هو خلوّهم من كُلف الإيمان ومصاعب القيام بالحق والصبر على عصيان الهوى، فكأنه قيل نتركهم وشأنهم في ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وهم فيها لا يُبخسون‏}‏ أي في الدنيا لا يجازون على كفرهم بجزاء سَلب بعض النعم عنهم بل يتركون وشأنهم استدراجاً لهم وإمهالاً‏.‏ فهذا كالتكملة لمعنى جملة ‏{‏نوف إليهم أعمالهم فيها‏}‏، إذ البَخس هو الحط من الشيء والنقص منه على ما ينبغي أن يكون عليه ظلماً‏.‏ وفي هذه الآية دليل لما رآه الأشعري أنّ الكفر لا يمنع من نعمة الله‏.‏

وضمير ‏{‏فيها‏}‏ يجوز أن يعود إلى ‏{‏الحياة‏}‏ وأن يعود إلى ‏(‏الأعمال‏)‏‏.‏

وجملة ‏{‏أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النار‏}‏ مستأنفة، ولكن اسم الإشارة يربط بين الجملتين، وأتي باسم الإشارة لتمييزهم بتلك الصفات المذكورة قبل اسم الإشارة‏.‏ وفي اسم الإشارة تنبيه على أن المشار إليه استحق ما يذكر بعد اختياره من الحكم من أجل الصفات التي ذكرت قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏أولَئِكَ عَلى هُدى منْ ربّهم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

و ‏{‏إلاّ النار‏}‏ استثناء مفرّغ من ‏{‏ليس لهم‏}‏ أي ليس لهم شيء ممّا يعطاه الناس في الآخرة إلاّ النار‏.‏ وهذا يدل على الخلود في النار فيدل على أن هؤلاء كفار عندنا‏.‏

والحَبْط‏:‏ البطلان أي الانعدام‏.‏

والمراد ب ‏{‏ما صنعوا‏}‏ ما عملوا، ومن الإحسان من الدنيا كإطعام العُفاة ونحوه من مواساة بعضهم بعضاً، ولذلك عبر هنا ب ‏{‏صنعوا‏}‏ لأنّ الإحسان يسمى صنيعة‏.‏

وضمير ‏{‏فيها‏}‏ يجوز أن يعود إلى ‏{‏الدنيا‏}‏ المتحدث عنها فيتعلّق المجرور بفعل ‏{‏صنعوا‏}‏‏.‏ ويجوز أن يعود إلى ‏{‏الآخرة‏}‏ فيتعلق المجرور بفعل ‏(‏بطل‏)‏، أي انعدم أثره‏.‏ ومعنى الكلام تنبيه على أن حظهم من النعمة هو ما يحصل لهم في الدنيا وأن رحمة الله بهم لا تعدو ذلك‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما ذكر له فارس والروم وما هم فيه من المتعة «أولئك عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا» والباطل‏:‏ الشيء الذي يذهب ضياعاً وخسراناً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إَمَامًا وَرَحْمَةً أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاحزاب فالنار مَوْعِدُهُ‏}‏‏.‏

أغلقت معاني هذه الآية لكثرة الاحتمالات التي تعتورها من جهة معاد الضمائر واسم الإشارة، ومن جهة إجمال المراد من الموصول، وموقع الاستفهام، وموقع فاء التفريع‏.‏ وقد حكى ابن عطية وجوهاً كثيرة في تفسيره بما لم يلخصه أحد مثله وتبعه القرطبي في حكاية بعضها‏.‏ والاختلاف في مَاصدق ‏{‏مَن كان على بينة من ربّه‏}‏‏.‏ وفي المراد من ‏{‏بينة من ربه‏}‏، وفي المعنّي ب ‏{‏يتلوه‏}‏‏.‏ وفي المراد من ‏{‏شاهد‏}‏‏.‏ وفي معاد الضمير المنصوب في قوله‏:‏ ‏{‏يتلوه‏}‏‏.‏ وفي معنى ‏(‏منْ‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏منه‏}‏، وفي معاد الضمير المجرور ب ‏(‏مِن‏)‏‏.‏ وفي موقع قوله‏:‏ ‏{‏مِن قبله‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏كتاب موسى‏}‏‏.‏ وفي مرجع اسم الإشارة من قوله‏:‏ ‏{‏أولئك يؤمنون به‏}‏‏.‏ وفي معاد الضمير المجرور بالباء من قوله‏:‏ ‏{‏يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب‏}‏ الخ فهذه مفاتيح تفسير هذه الآية‏.‏

والذي تخلّص لي من ذلك ومما فتح الله به مما هو أوضح وجْهاً وأقرب بالمعنى المقصود شِبْهاً‏:‏ أن الفاء للتفريع على جملة ‏{‏أم يقولون افتراه إلى قوله‏:‏ فهل أنتم مسلمون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 13، 14‏]‏ وأن ما بينهما اعتراض لتقرير توغلهم في المكابرة وابتعادهم عن الإيمان، وهذا التفريع تفريع الضدّ على ضده في إثبات ضد حكمه له، أي إن كان حال أولئك المكذبين كما وُصف فثَمّ قوم هم بعكس حالهم قد نفعتهم البيّنات والشواهد، فهم يؤمنون بالقرآن وهم المسلمون وذلك مقتضى قوله‏:‏ ‏{‏فهل أنتم مسلمون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 14‏]‏، أي كما أسلم من كانوا على بيّنة من ربهم منكم ومن أهل الكتاب‏.‏

والهمزة للاستفهام التقريري، أي إن كفر به هؤلاء أفيُؤمِنُ به من كان على بينة من ربه، وهذا على نحو نظم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن حَق عليه كلمة العذاب أفأنت تُنقذ مَن في النّار‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 19‏]‏ أي أنت تنقذ من النار الذي حق عليه كلمة العذاب‏.‏

و ‏{‏مَن كان على بيّنة‏}‏ لا يراد بها شخص معيّن‏.‏ فكلمة ‏(‏مَن‏)‏ هنا تكون كالمعرّف بلام العهد الذهني صادقة على من تحققت له الصلة، أعني أنه على بينة من ربه‏.‏ وبدون ذلك لا تستقيم الإشارة‏.‏ وإفراد ضمائر ‏{‏كان على بيّنة من ربه‏}‏ مراعاةٌ للفظ ‏(‏مَن‏)‏ الموصولة وذلك أحد استعمالين‏.‏ والجمع في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك يؤمنون‏}‏ مراعاة لمعنى ‏(‏مَن‏)‏ الموصولة وذلك استعمال آخر‏.‏ والتقدير‏:‏ أفمن كانوا على بينة من ربهم أولئك يؤمنون به‏.‏ ونظير هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم‏}‏ في سورة ‏[‏القتال‏:‏ 14‏]‏‏.‏

والذين هم على بينة من ربهم يجوز أن يكونوا النصارى فقط فإنهم كانوا منتشرين في العرب ويعرف أهل مكة كثيراً منهم، وهم الذين عرفوا أحقية الإسلام مثل ورقة بن نوفل ودحية الكلبي، ويجوز أن يراد النصارى واليهود مثل عبد الله بن سلام ممّن آمن بعد الهجرة فدلوا على تمكنهم من معرفة البينة لصحة أفهامهم ولوضوح دلالة البيّنة، فأصحابها مؤمنون بها‏.‏

والمراد بالبيّنة حجة مجيء الرسول المبشّر به في التوراة والإنجيل‏.‏ فكون النصارى على بينة من ربهم قبل مجيء الإسلام ظاهر لأنهم لم يكذّبُوا رسولاً صادقاً‏.‏ وكون اليهود على بيّنة إنما هو بالنسبة لانتظارهم رسولاً مبشّراً به في كتابهم وإن كانوا في كفرهم بعيسى عليه السلام ليسوا على بيّنة‏.‏ فالمراد على بيّنة خاصة يدل عليها سياق الكلام السابق من قوله‏:‏ ‏{‏فاعلموا أنما أنزل بعلم الله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 14‏]‏، ويعينها اللاحق من قوله‏:‏ ‏{‏أولئك يؤمنون به‏}‏ أي بالقرآن‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من ربه‏}‏ ابتدائية ابتداء مجازياً‏.‏ ومعنى كونها من ربه أنها من وحي الله ووصايته التي أشار إليها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمَا آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لمَا مَعكم لتُؤمنن به ولتنصرنه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الذينَ يَتبعون الرسول النّبيء الأمّيّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التّوراة والإنجيل‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏ وذكر كتاب موسى وأنه من قبله يشير إلى أن البيّنة المذكورة هنا من الأنجيل، ويقوي أن المراد ب ‏{‏من كان على بينة من ربه‏}‏ النصارى‏.‏

وفعل ‏(‏يتلوه‏)‏ مضارع التّلو وهو الاتّباع وليس من التلاوة، أي يتبعه‏.‏ والاتباع مستعار للتّأييد والاقتداء فإن الشاهد بالحق يحضر وراء المشهود له‏.‏ وضمير الغائب المنصوب في قوله‏:‏ ‏{‏يتلوه‏}‏ عائد إلى ‏{‏من كان على بينة من ربه‏}‏‏.‏

والمراد ب ‏{‏شاهد منه‏}‏ شاهد من ربه، أي شاهد من الله وهو القرآن لأنه لإعجازه المعاندين عن الإتيان بعشر سور مثله كان حجة على أنه آت من جانب الله‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ ابتدائية‏.‏ وضمير ‏{‏منه‏}‏ عائد إلى ‏{‏ربه‏}‏‏.‏ ويجوز أن يعود إلى ‏{‏شاهد‏}‏ أي شاهد على صدقه كائن في ذاته وهو إعجازه إياهم عن الإتيان بمثله‏.‏

و ‏{‏من قبله‏}‏ حال من ‏{‏كتاب موسى‏}‏‏.‏ و‏{‏كتاب موسى‏}‏ عطف على ‏{‏شاهد منه‏}‏ والمراد تلوه في الاستدلال بطريق الارتقاء فإن النصارى يهتدون بالإنجيل ثم يستظهرون على ما في الإنجيل بالتّوراة لأنّها أصله وفيها بيانه، ولذلك لما عطف ‏{‏كتاب موسى‏}‏ على ‏{‏شاهد‏}‏ الذي هو معمول ‏{‏يتلوه‏}‏ قيد كتاب موسى بأنه من قبله، أي ويتلوه شاهد منه‏.‏ ويتلوه كتاب موسى حالة كونه من قبْل الشاهد أي سابقاً عليه في النزول‏.‏ وإذا كان المراد ب ‏{‏من كان على بيّنة من ربّه‏}‏ النصارى خاصة كان لذكر ‏{‏كتاب موسى‏}‏ إيماء إلى أن كتاب موسى عليه السلام شاهد على صدق محمّد صلى الله عليه وسلم ولم يُذكر أهل ذلك الكتاب وهم اليهود لأنهم لم يكونوا على بيّنة من ربّهم كاملةٍ من جهة عدم تصديقهم بعيسى عليه السلام‏.‏

و ‏{‏إماماً ورحمة‏}‏ حالان ثناء على التوراة بما فيها من تفصيل الشريعة فهو إمام يهتدى به ورحمة للنّاس يعملون بأحكامها فيرحمهم الله في الدنيا بإقامة العدل وفي الآخرة بجزاء الاستقامة إذ الإمام ما يؤتم به ويعمل على مثاله‏.‏

والإشارة ب ‏{‏أولئك‏}‏ إلى ‏{‏من كان على بينة من ربّه‏}‏، أي أولئك الذين كانوا على بيّنة من ربهم يؤمنون بالقرآن وليسوا مثلكم يا معشر المشركين، وذلك في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 89‏]‏‏.‏

وإقحام ‏{‏أولئك‏}‏ هنا يشبه إقحام ضمير الفصل، وفيه تنبيه على أن ما بعده من الخبر مسبب على ما قبل اسم الإشارة من الأوصاف وهي كونهم على بينة من ربهم معضدة بشواهد من الأجيل والتوراة‏.‏

وجملة ‏{‏أولئك يؤمنون به‏}‏ خبر ‏{‏من كان على بينة من ربه‏}‏‏.‏

وضمير ‏(‏به‏)‏ عائد إلى القرآن المعلوم من المقام أو من تقدم ضميره في قوله ‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وبه ينتظم الكلام مع قوله‏:‏ ‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فاعلموا أنما أنزل بعلم الله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 13، 14‏]‏ أي يؤمنون بكون القرآن من عند الله‏.‏

والباء للتعدية لا للسببية، فتعدية فعل ‏(‏يؤمنون‏)‏ إلى ضمير القرآن من باب إضافة الحكم إلى الأعيان وإرادة أوصافها مثل ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، أي يؤمنون بما وصف به القرآن من أنه من عند الله‏.‏

وحاصل معنى الآية وارتباطها بما قبلها ‏{‏فهل أنتم مسلمون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 14‏]‏ فإن الذين يؤمنون به هم الذين كانوا على بيّنة من ربّهم مؤيّدة بشاهد من ربهم ومعضودة بكتاب موسى عليه السلام من قَبْل بيّنتهم‏.‏

وقريب من معنى الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ فاستقام تفسير الآية تمام الاستقامة، وأنت لا يعوزك تركيب الوجوه التي تأول بها المفسرون مِمّا يخالف ما ذكرناه كُلاً أو بَعضاً فبصَرك فيها حديد، وبيدك لفتح مغالقها مَقاليد‏.‏

وجملة ‏{‏ومن يكفر به من الأحزاب‏}‏ عطف على جملة ‏{‏أفمن كان على بيّنة من ربّه‏}‏ لأنه لمّا حرض أهل مكة على الإسلام بقوله‏:‏ ‏{‏فهل أنتم مسلمون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 14‏]‏، وأراهم القِدْوة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك يؤمنون به‏}‏، عاد فحذر من الكفر بالقرآن فقال‏:‏ ‏{‏ومن يكفر به من الأحزاب‏}‏، وأعرض عما تبين له من بيّنة ربه وشواهد رسله فالنّار موعده‏.‏

والأحزاب‏:‏ هم جماعات الأمم الذين يجمعهم أمْرٌ يجتمعون عليه، فالمشركون حزب، واليهود حزب، والنصارى حزب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كذبت قبلهم قوم نوححٍ وعادً وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب ليكة أولئك الأحزاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 12، 13‏]‏‏.‏

والباء في ‏{‏يكفر به‏}‏ كالباء في ‏{‏يؤمنون به‏}‏‏.‏

والموعد‏:‏ ظرف للوعد من مكان أو زمان‏.‏

وأطلق هنا على المصير الصائر إليه لأن شأن المكان المعيّن لعمل أن يعين به بوعد سابق‏.‏

تفريع على جملة ‏{‏ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده‏}‏ والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم

والنهي مستعمل كناية تعريضية بالكافرين بالقرآن لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ونقصه، فمن لوازمه ذم المتلبس بالمنهي عنه‏.‏ ولما كان المخاطب غير مظنة للتلبس بالمنهي عنه فيُطلبَ منه تركه ويكون النهيُ طلبَ تحصيل الحاصل، تعيّنَ أن يكون النهي غير مراد به الكفّ والإقلاع عن المنهي عنه فيكون مستعملاً في لازم ذلك بقرينة المقام، ومما يزيد ذلك وضوحاً قوله تعالى في سورة آلم ‏[‏السجدة‏:‏ 23‏]‏ ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه‏}‏ فإنه لو كان المقصود تحذير النّبيء صلى الله عليه وسلم من الامتراء في الوحي لما كان لتفريع ذلك على إيتاء موسى عليه السلام الكتاب ملازمة، ولكن لما كان المراد التعريض بالذين أنكروا الوحي قدّم إليهم احتجاجَ سبق الوحي لموسى عليه السلام‏.‏

و ‏{‏في‏}‏ للظرفية المجازية المستعملة في تمكن التلبس نظراً لحال الذين استعمل النهي كناية عن ذمّهم فإنهم متلبسون بمزية شديدة في شأن القرآن‏.‏

وضميرا الغيبة عائدان إلى القرآن الذي عاد إليه ضمير ‏{‏افتراه‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏إنه الحق من ربك‏}‏ مستأنفة تأكيد لما دلت عليه جملة ‏{‏فلا تَكُ في مرية منه‏}‏ من أنه لوضوح حقيته لا ينبغي أن يمترى في صدقه‏.‏ وحرف التأكيد يقوم مقام الأمر باعتقاد حقيته لما يدل عليه التأكيد من الاهتمام‏.‏

والمرية‏:‏ الشك‏.‏ وهي مرادفة الامتراء المتقدم في أول الأنعام‏.‏ واختير النهي على المرية دون النهي عن اعتقاد أنه كذب كما هو حال المشركين، لأن النهي عن الامتراء فيه يقتضي النهي عن الجزم بالكذب بالأوْلى، وفيه تعريض بأن ما فيه المشركون من اليقين بكذب القرآن أشد ذمّاً وشناعة‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ ابتدائية، أي في شك ناشئ عن القرآن، وإنما ينشأ الشك عنه باعتبار كونه شكّاً في ذاته وحقيقته لأن حقيقة القرآنية أنه كتاب من عند الله، فالشك الناشئ على نزوله شك في مجموع حقيقته‏.‏ وهذا مثل الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏يؤمنون به‏}‏ من غير احتياج إلى تقدير مضاف يؤول به إلى إضافة الحكم إلى الأعيان المراد أوصافها‏.‏

وتعريف ‏{‏الحق‏}‏ لإفادة قصر جنس الحق على القرآن‏.‏ وهو قصر مبالغة لكمال جنس الحق فيه حتى كأنه لا يوجد حق غيره مثل قولك‏:‏ حاتم الجواد‏.‏

والاستدراك بقوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏}‏ ناشيء على حكم الحصر، فإنّ الحصر يقتضي أن يؤمن به كل من بلغه ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏.‏

والإيمان هو التصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين‏.‏

وحذف متعلق ‏{‏يؤمنون‏}‏ لأن المراد انتفاء حقيقة الإيمان عنهم في كل ما طلب الإيمان به من الحق، أي أن في طباع أكثر الناس تغليب الهوى على الحق فإذا جاء ما يخالف هواهم لم يؤمنوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏18‏)‏ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

لما انقضى الكلام من إبطال زعمهم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم افترى القرآن ونسبه إلى الله، وتعجيزهم عن برهان لما زعموه، كَرّ عليهم أن قد وضح أنهم المفترون على الله عدة أكاذيب، منها نفيهم أن يكون القرآن منزّلاً من عنده‏.‏

فعطفت جملة ‏{‏ومن أظلم ممن افترى‏}‏ على جملة ‏{‏ومن يكْفر به من الأحزاب فالنار موعده‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 17‏]‏ لبيان استحقاقهم النار على كفرهم بالقرآن لأنهم كفروا به افتراء على الله إذ نسبوا القرآن إلى غير مَن أنزله، وزعموا أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم افتراه، فكانوا بالغين غاية الظلم حتى لقد يسأل عن وجود فريق أظلَمَ منهم سؤالَ إنكار يؤول إلى معنى النفي، أي لا أحد أظلم‏.‏ وقد تقدّم نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن منع مساجد الله‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 114‏]‏، وفي سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 37‏]‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فمن أظلم ممّن افترى على الله كذباً أو كذّب بآياته‏.‏‏}‏ وافتراؤهم على الله هو ما وضعوه من دين الشرك، كقولهم‏:‏ إن الأصنام شفعاؤهم عند الله، وقولهم في كثير من أمور دينهم ‏{‏واللّهُ أمرَنا بها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ما جعل الله من بحيرةٍ ولا سائبةٍ ولا وصيلةٍ ولا حاممٍ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 103‏]‏ أي إذ يقولون‏:‏ أمرنا الله بذلك‏.‏

وجملة ‏{‏أولئك يعرضون على ربهم‏}‏ استئناف‏.‏ وتصديرها باسم الإشارة للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة من الخَبر بسبب ما قبل اسم الإشارة من الوصف، وهذا أشد الظلم كما تقدم في ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ولمَا يؤذن به اسم الإشارة من معنى تعليل ما قبله فيما بعده علم أن عرضهم على ربهم عَرض زجر وانتقام‏.‏

والعرض إذا عدّي بحرف ‏(‏على‏)‏ أفاد معنى الإحضار بإراءة‏.‏

واختيار وصف السبب للإيماء إلى القدرة عليهم‏.‏

وعطف فعل ‏(‏يقول‏)‏ على فعل ‏(‏يعرضون‏)‏ الذي هو خبر، فهو عطف على جزء الجملة السابقة وهو هنا ابتداء عطف جملة على جملة فكلا الفعلين مقصود بالإخبار عَن اسم الإشارة‏.‏

والمعنى أولئك يعرضون على الله للعقاب ويعلن الأشهاد بأنهم كذبوا على ربهم فضحاً لهم‏.‏

والأشهاد‏:‏ جمع شاهد بمعنى حاضر، أو جمع شهيد بمعنى المخبر بما عليهم من الحق‏.‏ وهؤلاء الأشهادُ من الملائكة‏.‏

واستحضارهم بطريق اسم الإشارة لتمييزهم للناس كلهم حتى يشتهر ما سيخبر به عن حالهم، والمقصود من ذلك شهرتهم بالسوء وافتضاحهم‏.‏

والإتيانُ بالموصول في الخبر عنهم إيماء إلى سببية ذلك الوصف الذي في الصلة فيما يرد عليهم من الحكم وهو ألا لعنة الله على الظالمين‏}‏، على أن المقصود تشهيرهم دون الشهادة‏.‏ والمقصود من إعلان هذ الصفة التشهير والخزي لا إثبات كذبهم لأن إثبات ذلك حاصل في صحف أعمالهم ولذلك لم يسند العرض إلى أعمالهم وأسند إلى ذواتهم في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك يعرضون على ربهم‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏ألاَ لعنة الله على الظالِمين‏}‏ من بقية قول الأشهاد‏.‏ وافتتاحها بحرف التنبيه يناسب مقام التشهير، والخبر مستعمل في الدعاء خزياً وتحقيراً لهم، وممّا يؤيد أنه من قول الأشهاد وقوع نظيره في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 44‏]‏ مصرحاً فيه بذلك ‏{‏فأذّن مؤذنٌ بينهم أن لعنة الله على الظالمين‏}‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة هم كافرون‏}‏ تقدم نظيره في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وضمير المؤنث في قوله‏:‏ ‏(‏يبغونها‏)‏ عائد إلى سبيل الله لأنّ السبيل يجوز اعتباره مؤنثاً‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم يبغون أن تصير سبيل الله عَوجاء، فعلم أن سبيل الله مستقيمة وأنهم يحاولون أن يصيروها عَوجاء لأنهم يريدون أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم دينهم ويغضبون من مخالفته إياه‏.‏ وهنا انتهى كلام الأشهاد لأن نظيره الذي في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 44‏]‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فأذّن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين‏}‏ الآية انتهى بما يماثل آخر هذه الآية‏.‏

واختصت هذه الآية على نظيرها في الأعراف بزيادة ‏(‏هم‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏هم كافرون‏}‏ وهو توكيد يفيد تقوّي الحكم لأن المقام هنا مقام تسجيل إنكارهم البعث وتقريرِه إشعاراً بما يترقبهم من العقاب المناسب فحكي به من كلام الأشهاد ما يناسب هذا، وما في سورة الأعراف حكاية لما قيل في شأن قوم أُدخلوا النار وظهر عقابهم فلا غَرض لحكاية ما فيه تأكيد من كلام الأشهاد، وكلا المقالتين واقع وإنما يحكي البليغ فيما يحكيه ما له مناسبة لمقام الحكاية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الارض‏}‏‏.‏

استئناف بياني ناشئ عن الاقتصار في تهديدهم على وصف بعض عقابهم في الآخرة فإنّ ذلك يثير في نفس السامع أن يسأل‏:‏ هل هم سالمون من عذاب الدنيا‏.‏ فأجيب بأنهم لم يكونوا معجزين في الدنيا، أي لا يخرجون عن مقدرة الله على تعذيبهم في الدنيا إذا اقتضت حكمته تعجيل عذابهم‏.‏

وإعادة الإشارة إليهم بقوله‏:‏ ‏(‏أولئك‏)‏ بعد أن أشير إليهم بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك يعرضون على ربهم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 18‏]‏ لتقرير فائدة اسم الإشارة السابق‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم يصيرون إلى حكم ربهم في الآخرة ولم يكونوا معجزيه أن يعذبهم في الدنيا متى شاء تعذيبهم ولكنه أراد إمهالهم‏.‏

والمعجز هنا الذي أفلت ممّن يروم إضراره‏.‏ وتقدم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ما توعدون لأت وما أنتم بمعجزين‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 134‏]‏‏.‏

والأرض‏:‏ الدنيا‏.‏ وفائدة ذكره أنهم لا ملجأ لهم من الله لو أراد الانتقام منهم فلا يجدون موضعاً من الأرض يستعصمون به‏.‏ فهذا نفي للملاجيء والمعاقل التي يستعصم فيها الهارب‏.‏ وعندي أنّ مقارنة ‏(‏في الأرض‏)‏ ب ‏(‏معجزين‏)‏ جَرى مجرى المثل في القرآن كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجزٍ في الأرض‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 32‏]‏ ولعله مما جرى كذلك في كلام العرب كما يؤذن به قول إياس بن قبيصة الطائي من شعراء الجاهلية‏:‏

ألم تر أن الأرض رحب فسيحة *** فهل تعجزني بقعة من بقاعها

‏{‏وما كان لهم من دون اله من أولياء‏}‏

يجوز أن يكون المراد بالأول الأنصار، أي ما لهم ناصر ينصرهم من دون الله‏.‏ فجمع لهم نفي سببي النجاة من عذاب القادر وهما المكان الذي لا يصل إليه القادر أو معارضة قادر آخر إياه يمنعه من تسليط عقابه‏.‏ و‏{‏مِن دون الله‏}‏ متعلق ب ‏(‏أولياء‏)‏ لما في الولي هنا من معاني الحائل والمباعد بقوله‏:‏ ‏{‏ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 119‏]‏‏.‏

ويجوز أن يراد بالأولياء الأصنام التي تَولوْها، أي أخلصوا لها المحبة والعبادة‏.‏

ومعنى نفي الأولياء عنهم بهذا المعنى نفي أثر هذا الوصف، أي لم تنفعهم أصنامهم وآلهتهم‏.‏

و ‏{‏من دون الله‏}‏ على هذا الوجه بمعنى من غير الله، ف ‏(‏دون‏)‏ اسم غير ظرف، و‏(‏من‏)‏ الجارّة ل ‏(‏دون‏)‏ زائدة تزاد في الظروف غير المتصرفة، و‏(‏من‏)‏ الجارة ل ‏(‏أولياء‏)‏ زائدة لاستغراق الجنس المنفي، أي ما كان لهم فرد من أفراد جنس الأولياء‏.‏

والعذاب المضاعف هو عذاب الآخرة بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏لم يكونوا معجزين في الأرض‏}‏ المشعر بتأخير العذاب عنهم في الدنيا لاَ عنْ عجز‏.‏

خبر عن اسم الإشارة‏.‏ ويجوز أن تكون جملة ‏{‏لم يكونوا معجزين في الأرض‏}‏ خبراً أوّلاً وجملة ‏{‏يضاعف‏}‏ خبراً ثانياً‏.‏ ويجوز أن تكون جملة ‏{‏لم يكونوا معجزين‏}‏ حالاً وجملة ‏{‏يضاعف‏}‏ خبراً أول‏.‏

يجوز أن يكون هذا خبراً عن اسم الإشارة أو حالاً منهُ فتكون استطاعة السمع المنفية عنهم مستعارة لكراهيتهم سماع القرآن وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم كما نفيت الإطاقة في قول الأعشى‏:‏

وهل تطيق وداعاً أيها الرجل ***

أراد بنفي إطاقة الوداع عن نفسه أنه يحزن لذلك الحزن من الوداع فأشبه الشيء غير المطاق وعبّر هنَا بالاستطاعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى استماع القرآن فيعرضون لأنّهم يكرهون أن يسمعوه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويلٌ لكل أفّاككٍ أثيممٍ يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصرّ مستكبراً كأن لم يسمعها‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 8‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه لعلكم تغلبون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ لأنهم لو سمعوا ووعوا لاهتدوا لأن الكلام المسموع مشتمل على تركيب الأدلة ونتائجها فسماعه كاف في حصول الاهتداء‏.‏

والإبصار المنفي هو النظر في المصنوعات الدالة على الوحدانية، أي ما كانوا يوجهون أنظارهم إلى المصنوعات توجيه تأمل واعتبار بل ينظرون إليها نظر الغافل عما فيها من الدقائق، ولذلك لم يقل هنا‏:‏ وما كانوا يستطيعون أن يبصروا، لأنهم كانوا يبصرونها ولكنّ مجرد الإبصار غير كاف في حصول الاستدلال حتّى يضم إليه عمل الفكر بخلاف السمع في قوله‏:‏ ‏{‏ما كانوا يستطيعون السمع‏}‏‏.‏

ويجوز أن تكون الجملة حالاً ل ‏(‏أولياء‏)‏، وسوّغ كونها حالاً من النكرة أن النكرة وقعت في سياق النفي‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم جعلوها آلهة لهم في حال أنها لا تستطيع السمع ولا الإبصار‏.‏

وإعادة ضمير جمع العقلاء على الأصنام على هذا الوجه منظور فيه إلى أن المشركين اعتقدوها تَعْقل، ففي هذا الإضمار مع نفي السمع والبصر عنها ضرب من التّهكم بهم‏.‏

والإتيان بأفعال الكون في هذه الجمل أربع مرات ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏أولئك لم يكونوا معجزين إلى قوله وما كانوا يبصرون‏}‏ لإفادة ما يدل عليه فعل الكون من تمكن الحدث المخبر به فقوله‏:‏ ‏{‏لم يكونوا معجزين‏}‏ آكد من‏:‏ لا يعجزون وكذلك أخواته‏.‏

والاختلاف بين صيغ أفعال الكون إذ جاء أولها بصيغة المضارع والثلاثة بعده بصيغة الماضي لأن المضارع المجزوم بحرف ‏(‏لم‏)‏ له معنى المضي فليس المخالفة منها إلاّ تفنناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏21‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

استئناف، واسم الإشارة هنا تأكيد ثان لاسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك يعرضون على ربهم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 18‏]‏‏.‏

والموصول في ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ مراد به الجنس المعروف بهذه الصلة، أي إن بلغكم أنّ قوماً خسروا أنفسهم فهم المفترون على الله كذباً، وخسارة أنفسهم عدم الانتفاع بها في الاهتداء، فلما ضلوا فقد خسروها‏.‏

وتقدم الكلام على ‏{‏خسروا أنفسهم‏}‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 12‏]‏‏.‏

والضلال‏:‏ خطأ الطريق المقصود‏.‏

و ‏{‏ما كانوا يفترون‏}‏ ما كانوا يزعمونه من أن الأصنام تشفع لهم وتدفع عنهم الضر عند الشدائد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وفي إسناد الضلال إلى الأصنام تهكم على أصحابها‏.‏ شبهت أصنامهم بمن سلك طريقاً ليلحق بمن استنجد به فضَلّ في طريقه‏.‏

وجملة ‏{‏لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون‏}‏ مستأنفة فذلكة ونتيجة للجمل المتقدمة من قوله‏:‏ ‏{‏أولئك يعرضون على ربهم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 18‏]‏ لأنّ ما جمع لهم من الزج للعقوبة ومن افتضاح أمرهم ومن إعراضهم عن استماع النذر وعن النظر في دلائل الوحدانية يوجب اليقين بأنهم الأخسرون في الآخرة‏.‏

و ‏(‏لا جرم‏)‏ كلمة جزْم ويقين جرت مجرى المثل، وأحسب أن ‏(‏جرم‏)‏ مشتقّ مما تنوسي، وقد اختلف أيمّة العربية في تركيبها، وأظهر أقوالهم أن تكون ‏(‏لا‏)‏ من أول الجملة و‏(‏جرم‏)‏ اسم بمعنى محالة أي لا محالة أو بمعنى بدّ أي لا بدّ‏.‏ ثم يجيء بعدها أنّ واسمها وخبرها فتكون ‏(‏أنّ‏)‏ معمولة لحرف جرّ محذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ لا جرم من أن الأمر كذا‏.‏ ولما فيها من معنى التحقيق والتوثيق وتعامل معاملة القسم فيجيء بعدها في ما يصلح لجواب قسم نحو‏:‏ لا جرم لأفعلن‏.‏ قاله عمرو بن معد يكرب لأبي بكر‏.‏

وعبر عمّا لحقهم من الضر بالخسارة استعارة لأنه ضر أصابهم من حيث كانوا يرجون المنفعة فهم مثل التجار الذين أصابتهم الخسارة من حيث أرادوا الربح‏.‏

وإنما كانوا أخسرين، أي شديدي الخسارة لأنهم قد اجتمع لهم من أسباب الشقاء والعذاب ما افترق بين الأمم الضالة‏.‏ ولأنهم شقُوا من حيث كانوا يحسبونه سعادة قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 103، 104‏]‏ فكانوا أخسرين لأنهم اجتمعت لهم خسارة الدنيا والآخرة‏.‏

وضمير ‏{‏هم الأخسرون‏}‏ ضمير فصل يفيد القصر، وهو قصر ادّعائي، لأنهم بلغوا الحد الأقصى في الخسارة، فكأنّهم انفردوا بالأخسرية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

لما ذكر أحوال البالغين أقصى غايات الخسارة ذكر مقابلهم الذين بلغوا أعلى درجات السعادة‏.‏ فالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن النفوس تشرئب عند سماع حكم الشيء إلى معرفة حكم ضده‏.‏

والإخبات‏:‏ الخضوع والتواضع، أي أطاعوا ربهم أحسن طاعة‏.‏

وموقع ‏{‏أولئك‏}‏ هنا مثل موقعه في الآية قبلها‏.‏

وجملة ‏{‏هم فيها خالدون‏}‏ في موقع البيان لجملة ‏{‏أصحاب الجنة‏}‏ لأن الخلود في المكان هو أحق الأحوال بإطلاق وصف الصاحب على الحالّ بذلك المكان إذ الأمكنة لا تقصد إلاّ لأجل الحلول فيها فتكون الجملة مستأنفة لبيان ما قبلها فمنزلتها منزلة عطف البيان، ولا تعرب في موضع خبر ثان عن اسم الإشارة‏.‏ وقد تقدم نظيرها في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 82‏]‏ في قوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدُون‏}‏ فعُد إليه وزد إليه ما هنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

بعد أن تبين الاختلاف بين حال المشركين المفترين على الله كذباً وبين حال الذين آمنوا وعملوا الصالحات في منازل الآخرة أعقب ببيان التنظير بين حالي الفريقين المشركين والمؤمنين بطريقة تمثيل ما تستحقه من ذم ومدح‏.‏

فالجملة فذلكة للكلام وتحصيل له وللتحذير من مواقعة سببه‏.‏

والمَثل، بالتحريك‏:‏ الحالة والصفة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثَل الجنة التي وعد المتقون‏}‏ الآية من سورة ‏[‏الرعد‏:‏ 35‏]‏، أي حالة الفريقين المشركين والمؤمنين تشبه حال الأعمى الأصم من جهة وحال البصير السميع من الجهة الأخرى، فالكلام تشبيه وليس استعارة لوجود كاف التشبيه وهو أيضاً تشبيه مفرد لا مركب‏.‏

والفريقان هما المعهودان في الذكر في هذا الكلام، وهما فريق المشركين وفريق المؤمنين، إذ قد سبَق ما يؤذن بهذين الفريقين من قوله‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 23‏]‏ الآية‏.‏

والفريق‏:‏ الجماعة التي تفارق، أي يخالف حالها حال جماعة أخرى في عمل أو نحلة‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأيّ الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 81‏]‏‏.‏

شبه حال فريق الكفار في عدم الانتفاع بالنظر في دلائل وحدانية الله الواضحة من مخلوقاته بحال الأعمى، وشبهوا في عدم الانتفاع بأدلة القرآن بحال من هو أصم‏.‏

وشبه حال فريق المؤمنين في ضد ذلك بحال من كان سليم البصر، سليم السمع فهو في هدى ويقين من مدركاته‏.‏

وترتيب الحالين المشبه بهما في الذكر على ترتيب ذكر الفريقين فيما تقدم ينبئ بالمراد من كل فريق على طريقة النشر المرتب‏.‏ والترتيب في اللف والنشر هو الأصل والغالب‏.‏

وقد علم أن المشبهين بالأعمى والأصم هم الفريق المقول فيهم ‏{‏ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 20‏]‏‏.‏

والواو في قوله‏:‏ ‏{‏والأصَم‏}‏ للعطف على ‏{‏الأعمى‏}‏ عطف أحد المشبهين على الآخر‏.‏ وكذلك الواو في قوله‏:‏ ‏{‏والسميع‏}‏ للعطف على ‏{‏البصير‏}‏‏.‏

وأما الواو في قوله‏:‏ ‏{‏والبصير‏}‏ فهي لعطف التشبيه الثاني على الأول، وهو النشر بعد اللف‏.‏ فهي لعطف أحد الفريقين على الآخر، والعطف بها للتقسيم والقرينة واضحة‏.‏

وقد يظن الناظر أن المناسب ترك عطف صفة ‏{‏الأصم‏}‏ على صفة ‏{‏الأعمى‏}‏ كما لم يعطف نظيراهما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 18‏]‏ ظناً بأن مورد الآيتين سواء في أن المراد تشبيه من جمعوا بين الصفتين‏.‏ وذلك أحد وجهين ذكرهما صاحب الكشاف‏.‏ وقد أجاب أصحاب حواشي الكشاف بأن العطف مبني على تنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات‏.‏ ولم يذكروا لهذا التنزيل نكتة ولعلهم أرادوا أنه مجرد استمال في الكلام كقول ابن زيابة

يا لهف زيابة للحارب ال *** صابح فالغانم فالآيب

والوجه عندي في الداعي إلى عطف صفة الأصم‏}‏ على صفة ‏{‏الأعمى‏}‏ أنه ملحوظ فيه أن لفريق الكفار حالين كل حال منهما جدير بتشبيهه بصفة من تينك الصفتين على حدة، فهم يُشبهون الأعمى في عدم الاهتداء إلى الدلائل التي طريق إدراكها البصر، ويُشْبهون الأصم في عدم فهم المواعظ النافعة التي طريق فهمها السمع، فهم في حالتيْن كلُّ حال منهما مشبّه به، ففي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كالأعمى والأصم‏}‏ تشبيهان مُفرقان كقول امرئ القيس‏:‏

كأنّ قلوب الطير رطباً ويابساً *** لدى وكرها العُنّاب والحشف البالي

والذي في الآية تشبيه معقولين بمحسوسين، واعتبار كل حال من حالي فريق الكفار لا محيد عنه لأن حصول أحد الحالين كاف في جر الضلال إليهم بله اجتماعِهما، إذ المشبّه بهما أمر عدمي فهو في قوة المنفي‏.‏

وأما الدّاعي إلى العطف في صفتي ‏{‏البصير والسّميع‏}‏ بالنسبة لحال فريق المؤمنين فبخلاف ما قررنا في حال فريق الكافرين لأن حال المؤمنين تشبه حالة مجموع صفتي ‏{‏البصير السميع‏}‏، إذ الإهتداء يحصل بمجموع الصفتين فلو ثبتت إحدى الصفتين وانتفت الأخرى لم يحصل الاهتداء إذ الأمران المشبه بهما أمران وجوديان، فهما في قوة الإثبات؛ فتعين أن الكون الداعي إلى عطف ‏{‏السميع‏}‏ على ‏{‏البصير‏}‏ في تشبيه حال فريق المؤمنين هو المزاوجة في العبارة لتكون العبارة عن حال المؤمنين مماثلة للعبارة عن حال الكافرين في سياق الكلام، والمزاوجةُ من محسنات الكلام ومرجعها إلى فصاحته‏.‏

وجملة ‏{‏هل يستويان مثلاً‏}‏ واقعة موقع البيان للغرض من التشبيه وهو نفي استواء حالهما، ونفي الاستواء كناية عن التفضيل والمفضل منهما معلوم من المقام، أي معلوم تفضيل الفريق الممثل بالسميع والبصير على الفريق الممثل بالأعمى والأصم‏.‏ والاستفهام إنكاري‏.‏

وانتصب ‏{‏مثلاً‏}‏ على التمييز، أي من جهة حالهما، والمثل‏:‏ الحال‏.‏

والمقصود تنبيه المشركين لما هم فيه من الضلالة لعلهم يتداركون أمرهم فلذلك فرع عليه بالفاء جملةُ ‏{‏أفلا تذكرون‏}‏‏.‏

والهمزة استفهام وإنكار انتفاء تذكرهم واستمرارهم في ضلالهم‏.‏

وقرأ الجمهور «تذّكرون» بتشديد الدال‏.‏ وأصله تتذكرون، فقلبت التاء دَالاً لِقرب مخرجيهما وليتأتّى الإدْغام تخفيفاً‏.‏ وقرأه حفص، وحمزة، والكسائي بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين من أول الفعل‏.‏

وفي مقابلة ‏{‏الأعمى والأصم‏}‏ ب ‏{‏البصير والسميع‏}‏ محسن الطباق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏25‏)‏ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ‏(‏26‏)‏‏}‏

انتقال من إنذار المشركين ووصف أحوالهم وما ناسب ذلك إلى موعظتهم بما أصاب المكذبين قبلهم من المصائب، وفي ذلك تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم بما لاقاه الرّسل عليهم السّلام قبله من أقوامهم‏.‏

فالعطف من عطف القصة على القصة وهي التي تسمى الواو الابتدائية‏.‏

وأكدت الجملة بلام القسم و‏{‏قد‏}‏ لأن المخاطبين لما غفلوا عن الحذر مما بقوم نوح مع مماثلة حالهم نزلوا منزلة المنكر لوقوع رسالته‏.‏

وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة ‏{‏إني‏}‏ بكسر الهمزة على أنه محكي بفعل قول محذوف في محل حال، أي قائلاً‏.‏

وقرأه ابن كثير، وأبو عَمرو، والكسائي، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف بفتح الهمزة على تقدير حرف جرّ وهو الباء للملابسة، أي أرسلناه متلبساً بذلك، أي بمعنى المصدر المنسبك من ‏(‏أني نذير‏)‏، أي متلبساً بالنذارة البيّنة‏.‏

وتقدم الكلام على نوح عليه السلام وقومه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله اصطفى آدم ونوحاً‏}‏ في آل عمران ‏(‏33‏)‏‏.‏ وعند قوله‏:‏ ‏{‏لقد أرْسلْنا نُوحاً إلى قوْمه‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏59‏.‏

‏(‏وجملة ‏{‏ألا تعبدوا إلاّ الله‏}‏ مفسرة لجملة ‏{‏أرسلنا‏}‏ لأن الإرسال فيه معنى القول دون حروفه، ويجوز كونها تفسيراً ل ‏{‏نذير‏}‏ لما في ‏{‏نذير‏}‏ من معنى القول، كقوله في سورة نوح ‏(‏2، 3‏)‏ ‏{‏قال يا قوم إني لَكمْ نَذير مبين أن اعبدوا الله واتّقوه‏}‏ وهذا الوجه متعين على قراءة فتح همزة ‏(‏أني‏)‏ إذا اعتبرت ‏(‏أنّ‏)‏ تفسيرية‏.‏ ويجوز جعل ‏(‏أنْ‏)‏ مخففة من الثقيلة فيكون بدلاً من ‏{‏أني لكم نذير مبين‏}‏ على قراءة فتح الهمزة واسمها ضمير شأن محذوفاً، أي أنّه لا تعبدوا إلاّ الله‏.‏

وجملة ‏{‏إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم‏}‏ تعليل ل ‏{‏نذير‏}‏ لأن شأن النذارة أن تثقل على النفوس وتخَزُهم فكانت جديرة بالتعليل لدفع حرج ما يلاقونه‏.‏

ووصف اليوم بالأليم مجاز عقلي، وهو أبلغ من أن يوصف العذاب بالأليم، لأن شدة العذاب لما بلغت الغاية جعل زمانه أليماً، أي مؤلماً‏.‏

وجملة ‏{‏أخاف عليكم‏}‏ ونحوها مثل أخشى عليك، تستعمل للتوقّع في الأمر المظنون أو المقطوع به باعتبار إمكان الانفلات من المقطوع به، كقول لبيد‏:‏

أخشى على أربَد الحتوف ولا *** أخشَى عليه الرياح والمَطرا

فيتعدّى الفعل بنفسه إلى الخوف منه ويتعدى إلى المخوف عليه بحرف ‏(‏على‏)‏ كما في الآية وبيت لبيد‏.‏

و ‏(‏العذاب‏)‏ هنا نكرة في المعنى، لأنه أضيف إلى نكرة فكان محتملاً لعذاب الدنيا وعذاب الآخرة‏.‏ فأما عذاب الدنيا فليس مقطوعاً بنزوله بهم ولكنه مظنون من نوح عليه السلام بناء على ما علمه من عناية الله بإيمان قومه وما أوحي إليه من الحرص في التبليغ، فعلم أن شأن ذلك أن لا يترك مَن عَصَوْه دون عقوبة‏.‏ ولذلك قال في كلامه الآتي ‏{‏إنما يأتيكم به الله إن شاء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 33‏]‏ على ما يأتي هنالك‏.‏ وكان العذاب شاملاً لعذاب الآخرة أيضاً إن بقوا على الكفر، وهو مقطوع به لأنّ الله يقرن الوعيد بالدعوة، فلذلك قال نوح عليه السلام في كلامه الآتي ‏{‏وما أنتم بمعجزين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 33‏]‏، وقد تبادر إلى أذهان قومه عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث فلذلك قالوا في كلامهم الآتي ‏{‏فأتنا بما تعدنا إن كنتم من الصادقين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 32‏]‏‏.‏ ولعلّ في كلام نوح عليه السّلام ما تفيدهم أنه توعدهم بعذاب في الدنيا وهو الطوفان‏.‏